العصابات العابرة للدول- تهديد متصاعد للاقتصاد والأمن وسيادة الدول

المؤلف: حسن أوريد10.09.2025
العصابات العابرة للدول- تهديد متصاعد للاقتصاد والأمن وسيادة الدول

في العصر الراهن، تفاقمت بصورة ملحوظة ظاهرة العصابات على نطاق عالمي، حيث باتت كيانات أشبه بالعصابات تسيطر على مقاليد الاقتصاد، وتمارس نفوذًا واسعًا في الشؤون العامة، بل وتؤثر أيضًا على طبيعة العلاقات بين الدول، وهي علاقات تجاوزت مفهوم العلاقات الدولية التقليدية، لما تنطوي عليه من تعارض مع مبادئ القانون الدولي وسيادة الدول.

انخرطت هذه العصابات بعمق في الأنشطة الاقتصادية، في ظاهرة يمكن وصفها بـ "النزوع العصاباتي"، وهي ترجمة لمفهوم gangsterism، حيث يختلط النشاط المشروع، كالاستثمار في العقارات، بممارسات ملتوية غير شفافة، مع ميل للتحايل القانوني وغير القانوني، بالإضافة إلى الأنشطة الإجرامية الصريحة كالمخدرات والاتجار بالبشر.

توغلت هذه العصابات في هياكل السلطة السياسية (الأحزاب) والمالية (متضمنة تواطؤًا من جانب البنوك)، كما تسللت إلى مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية. صحيح أنها تذكرنا بالمافيا، إلا أنها تتجاوزها من حيث وجود واجهة علنية لم تكن موجودة لدى المافيا. تستمد العصابات قوتها من مواردها المالية الهائلة، وشبكاتها الواسعة الممتدة على الصعيدين الوطني والدولي، بالإضافة إلى استغلالها للتقنيات الحديثة المتطورة، بما في ذلك الفضاء السيبراني والذكاء الاصطناعي. كما أنها تتميز بمرونة أساليبها وقدرتها على التكيف مع مختلف الظروف والسياقات. تستظل بشبكات عالمية خفية في معظمها، وتوظف ظاهرًا أنشطة لا تثير الشبهات، بل وتشارك في بعض الأعمال الاجتماعية بهدف التمويه وإخفاء أنشطتها الحقيقية.

الأمر الأكثر خطورة هو أن أنشطة هذه العصابات غالبًا ما تنجو من الملاحقة القانونية، حيث تستخدم واجهات مشروعة ومؤسسات ظاهرية، مما يمكنها من الالتفاف على القوانين والإفلات من العقاب. نحن هنا لا نتحدث عن مجرد جريمة منظمة أو دولية، بل عن وضع بالغ التعقيد والغموض يقع بين ما هو قانوني وما هو محظور، بين المؤسسي وغير المؤسسي، بين النشاط الاقتصادي المشروع وتبييض الأموال القذرة، وبين الحفاظ على الأمن والانحرافات الأمنية الخطيرة.

غالبًا ما لا يتم الكشف عن الجوانب غير القانونية في أنشطة هذه العصابات إلا بعد فوات الأوان، مما يجعل الأدوات القانونية قاصرة عن مواجهة هذه الأوضاع الخارجة عن القانون، وعن تحقيق الشفافية والوضوح اللازمين في المعاملات الاقتصادية والمالية. تهدد العصابات المؤسسات القائمة، إذ تعمل على إضعافها من الداخل من خلال التغلغل والرشوة، كما تقوض استقرار المجتمعات باستخدام العنف، وتؤثر سلبًا على صحة أفرادها، كما هو الحال مع العصابات المتورطة في تجارة المخدرات.

تتجاوز ظاهرة العصابات الجريمة المنظمة التقليدية، على الرغم من صعوبة الفصل التام بينهما. يكفي أن نشير إلى أن عدد ضحايا الجرائم العابرة للقارات في عام 2017 وصل إلى ما يقرب من 90 ألف شخص، وهو رقم يفوق عدد ضحايا أية بؤرة توتر في العالم قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. هذا يعني أن الجريمة المنظمة لا تزال تشكل التهديد الأكبر للأمن العالمي، حتى أنها تتجاوز في خطورتها الحروب والصراعات المسلحة. وتأتي العصابات في صدارة هذا التهديد، حيث تعرض اقتصادات الدول للخطر، وتقوض تماسك المجتمعات، وتهدد أمنها الداخلي.

"النزوع العصاباتي" أو gangsterism، يشكل حالة فريدة قائمة بذاتها، فهو يقع في المنطقة الرمادية ما بين القانون واللاقانون، وبين المؤسسي واللامؤسسي. هذه الظاهرة مرشحة للانتشار والتوسع، ولم تفلح في الحد منها لا جائحة كوفيد-19، ولا الحرب الروسية الأوكرانية، ولا حتى الارتفاع المستمر في معدلات التضخم. السبيل الوحيد لمواجهة هذه الظاهرة هو التعاون الدولي الوثيق، وتحديث الأدوات القانونية، وتعزيز التعاون الأمني بين مختلف الدول.

ولا تقل خطورة هذه العصابات عن الشبكات الإرهابية، بل إنها تتداخل معها في بعض الأحيان، وتستغل الأوضاع الداخلية الهشة (كما تفعل الجماعات الإرهابية الراديكالية)، بالإضافة إلى الحروب والصراعات، والحاجة إلى الأسلحة، والالتفاف على العقوبات المفروضة على بعض الدول، واستخدام الذكاء الاصطناعي، والوسائل السيبرانية المتطورة.

على المستوى الداخلي، تتغلغل العصابات في النسيج الاقتصادي للمجتمعات، مستخدمة أنشطة قانونية ظاهرية لتبييض الأموال غير المشروعة، كما تتسلل إلى المجالين السياسي والإعلامي، مستغلة القوانين لصالحها، في تحالف وثيق مع الأوليغارشيات، حيث تسعى لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب مصالح الدول والشعوب.

لا تتردد العصابات في اللجوء إلى العنف بشتى صوره، بما في ذلك القتل والخطف والتعذيب، عندما تتعارض مصالحها مع مصالح الدول أو الأطراف المنافسة. هدفها الأساسي هو السيطرة على الثروات والإفلات من الرقابة، سواء كانت ضريبية (التهرب الضريبي) أو أمنية، من خلال التغلغل في الأجهزة الأمنية أو شراء ذمم عناصر منها، مثل: الجمارك، الأمن، القضاء، وحتى الصحافة. كما تسعى العصابات للسيطرة على الموانئ (كما في حالة غينيا بيساو)، أو تغيير طرق التهريب حسب مستوى الرقابة، سواء كانت بحرية أو جوية أو برية أو حتى عبر الصحراء.

تعتبر العصابات أحد الأوجه الخفية للعولمة، إذ إنها استفادت بشكل كبير من موجة الخصخصة، وتدفق الأموال والبضائع، وتخفيف المراقبة، مما أتاح لها إمكانية تكوين شبكات معقدة وعابرة للحدود. تستمد العصابات قوتها من تفوق عناصرها على الترسانة القانونية القائمة، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي، ومن قدرتها على المبادرة والاستباق، متجاوزة بذلك قدرة الدول على الاستباق والمراقبة.

تستظل العصابات بشبكات دولية واسعة وتستخدم أدوات متطورة للعمل والرصد، لا تقل عن تلك المستخدمة من قبل الأجهزة المالية، بما في ذلك توظيف الذكاء الاصطناعي، مما يزيد من خطورتها وقدرتها على إلحاق الضرر.

تمارس العصابات أنشطتها في مجالات تنقل الأشخاص (الهجرة السرية) والبضائع، بما في ذلك تهريب الأسلحة والعملات المزورة والأدوية والمخدرات واللوحات الفنية، مع التغلغل في شبكات نقل الحاويات. كما تعمل في بعض المناجم ذات المردودية المرتفعة، مثل: مناجم الذهب والأحجار الكريمة، بالإضافة إلى قطاع العقارات، من خلال الالتفاف على القوانين، والحصول على التراخيص بطرق غير مشروعة، والمضاربة.

توظف العصابات وسائل متطورة للتواصل، بما في ذلك الوسائل السيبرانية المتقدمة. وعلى خلاف التيارات الراديكالية، لا تمتلك العصابات أجندة سياسية أو مرجعية أيديولوجية محددة، بل تسعى فقط لبسط السيطرة على الثروات والإفلات من المراقبة بشتى الوسائل، بما في ذلك التهرب الضريبي.

تظل العصابات التي تنشط في الاتجار بالمخدرات هي الأهم من حيث قدراتها المالية الهائلة، حيث يتراوح حجم المبادلات الناتجة عن تجارة المخدرات بين 250 و320 مليار دولار، مما يجعلها قوة اقتصادية ضاربة ومؤثرة.

تتوزع هذه العصابات بين تنظيمات تنشط في شراء المنتج من شبكات المنتجين المحليين (حيث يظل المزارع الحلقة الأضعف في هذه السلسلة، على الرغم من أن إنتاج المخدرات الطبيعية هو أهم مصدر للربح في كل الزراعات)، بالإضافة إلى مراحل التعليب والتصنيع والتصدير والتوزيع.

كما توجد كارتيلات تعمل عبر جميع الحلقات، مع وجود حواجز صارمة بين كل مرحلة: (الإنتاج، التسويق، التوزيع)، ولا تتردد هذه العصابات في استخدام العنف المفرط، بما في ذلك الأسلحة والقتل والاختطاف والتعذيب في الحالات القصوى، وطلب الفدية. كما تلجأ إلى محترفي العنف، المعروفين في أمريكا اللاتينية بـ "سِكاريُوس" (sicarios).

تتوزع المخدرات بين الأنواع الطبيعية، مثل: القنب الهندي (المغرب، الهند) ومشتقاته كالماريجوانا والحشيش، والكوكايين (أميركا اللاتينية)، والهيروين (بورما، أفغانستان)، والمخدرات المركبة أو المصنعة. وغني عن البيان التذكير بالمضاعفات الاجتماعية الوخيمة للمخدرات، من انتشار العنف والجريمة، وانحراف الشباب والدعارة، فضلًا عن الآثار السلبية المدمرة على صحة المتعاطين سواء في المراحل المبكرة أو لدى المدمنين بشكل كامل.

من بين الأخطار الجديدة التي تمثلها شبكات المخدرات، التغلغل العميق في البنية السياسية والإدارية للدولة. في هذه الحالة، تصبح الدولة مخترقة أو معطوبة السيادة، وتعمل العصابات على تعطيل عمل المؤسسات الأمنية والقضائية.

حالة تاجر المخدرات المعروف باسم "إسكوبار الصحراء" في المغرب، وهو تاجر مخدرات يحمل جنسية مالي، تمثل مثالًا صارخًا على هذا الخطر، حيث تمكن من التسلل إلى الأوساط الفنية والرياضية والسياسية، وحتى إلى عناصر من الجهاز القضائي في المغرب (القضية ما تزال قيد النظر أمام القضاء لكشف ملابساتها وتفاصيلها).

تعطل ظاهرة العصابات قدرة الدولة على الاستباق والمبادرة والكشف عن الجرائم، باستثناء الحالات التي يتم فيها التنسيق الدولي الفعال. (توقيف "إسكوبار الصحراء" لم يكن ممكنًا لولا التنسيق الأمني الوثيق بين مختلف الدول).

إن استفحال دور العصابات يستدعي التصدي الحازم والجذري لها. يجب أولًا تجريم الأفعال التي تحيط بها الشبهات، أو إجراء التحريات الدقيقة واتخاذ إجراءات المراقبة اللازمة عند منح التراخيص على مستوى الدول، حيث إن العديد من الدول تتغاضى عن أنشطة العصابات، بل إن بعضها يتحالف معها بشكل أو بآخر، فيما تعتبر أخرى أن تلك الأنشطة تدر دخلًا يسهم في دعم الاقتصاد الوطني.

ثانيًا، يجب تعزيز التنسيق والتعاون بين الدول، إذ بدون هذا التنسيق ستظل العصابات قادرة على التحرك بحرية والإفلات من العقاب. وثالثًا، يجب العمل على تجريم أنشطة العصابات على مستوى الأمم المتحدة، بحيث لا يقتصر الأمر على مجرد إدانة الرشوة أو المطالبة بالشفافية.

وكما تمكن التعاون الدولي الوثيق من الحد من انتشار الإرهاب في العالم، فإن هناك حاجة ماسة إلى تضافر الجهود على المستوى الدولي للحد من فاعلية العصابات التي تهدّد أمن الدول واستقرارها وتقوض سيادتها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة